
في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها الاقتصاد القطري، ومع صعود مفهوم التمكين كأحد ركائز التنمية المستدامة، تتقدم المرأة القطرية لتكون فاعلًا أساسيًا في واحدة من أكثر الساحات تنافسية: ريادة الأعمال. لم تعد الرائدة القطرية نموذجًا نخبويًا أو حالة فردية، بل باتت جزءًا من حركة مجتمعية صاعدة تعكس نضجًا اقتصاديًا، ووعيًا بأهمية التنوع في القيادة وصناعة القرار.
الاستطلاع الذي أجرته رائدات يرصد تجارب واقعية لسيدات قطريات اخترن أن يصنعن الفرق في مجالات عدة من خلال تأسيس مشاريعهن الخاصة. من التكنولوجيا إلى التجميل، ومن التدريب إلى التصميم، تتعدد القصص وتتوحد الرسالة: الشغف والإرادة قادرتان على تجاوز الحواجز.
تقول نورة الحداد، مؤسسة مشروع متخصص في العناية الطبيعية بالبشرة، إن بدايتها كانت شخصية جدًا: «كنت أواجه مشاكل في بشرتي ولم أجد منتجًا طبيعيًا بالكامل في السوق المحلي. بدأت أصنع خلطات بسيطة في المنزل باستخدام مواد عضوية، ثم جاءتني فكرة تحويلها إلى منتج تجاري». نورة، التي كانت تعمل في وظيفة مكتبية مستقرة، قررت المغامرة بعد أن وجدت تشجيعًا من الأهل وعدد من الزبائن الأوائل. بعد تسجيل مشروعها رسميًا والحصول على الدعم من إحدى حاضنات الأعمال، أطلقت علامتها التجارية التي باتت تُباع الآن في عدة دول خليجية. «أصعب لحظة كانت التخلي عن الأمان الوظيفي»، تقول نورة، «لكن كنت مؤمنة أن الاستقلال المهني والنجاح لهما طعم مختلف، خصوصًا حين يُبنى من الصفر.»
أما لولوة المهندي، التي تعمل في مجال تنسيق المناسبات والضيافة الفاخرة، فتقول إن شغفها بالتفاصيل والتقاليد هو ما قادها للنجاح. «الضيافة في الثقافة القطرية ليست مجرد خدمة، بل تجربة لها جذور في التاريخ. مزجت بين هذه القيم وبين تقنيات الإدارة الحديثة، وخلقت نموذجًا جديدًا لعلامة تجارية فاخرة تستهدف السوق المحلي والخليجي». لولوة تدير اليوم فريقًا مكونًا من نساء ورجال، وتحرص على توظيف قطريات شابات لإعطائهن الفرصة لاكتساب المهارات من الميدان. وتضيف: «ما أفتخر به ليس فقط النجاح التجاري، بل بناء بيئة عمل صحية تُشجع النساء على التعلم والقيادة.»
في الجانب التكنولوجي، تقدم مريم السويدي واحدة من أكثر التجارب تميزًا. وهي مؤسسة شركة متخصصة في التكنولوجيا المالية (FinTech)، قامت بتطوير حلول دفع رقمية مخصصة لرواد الأعمال الصغار. تقول مريم: «عانيت كعميلة من تعقيد الخدمات البنكية لرواد الأعمال، فقررت أن أقدم بديلًا أسهل وأكثر مرونة». بدأت شركتها كمشروع ناشئ بدعم من برامج الابتكار الحكومي، واليوم تُعقد شراكاتها مع بنوك وشركات كبرى في قطر. وتتابع: «ما زالت النظرة تجاه المرأة في المجال التقني تحتاج إلى وقت، لكننا نكسر هذه الصورة النمطية كل يوم بالإنجاز».
خولة الكواري، التي تعمل كمستشارة تطوير ذاتي وتدير مركزًا تدريبيًا، ترى أن أحد أكبر التحديات يكمن في إقناع الفتيات بالتخلي عن فكرة «الوظيفة الآمنة». وتوضح: «ريادة الأعمال تحتاج شغفًا حقيقيًا، لكنها أيضًا تتطلب تخطيطًا وانضباطًا. ألاحظ كثيرًا من الأفكار المبدعة لدى الفتيات، لكن الخوف من الفشل أو من خسارة الاستقرار المالي يعيق التنفيذ.» خولة تسعى اليوم، من خلال مركزها، لتقديم ورش تدريب متخصصة في تمكين النساء على المستوى الشخصي والمهني، وتقول: «التدريب لا يُعنى بالمهارة فقط، بل بتغيير العقلية.»
التحديات لم تكن غائبة عن أي من الرائدات المشاركات في الاستطلاع. أبرزها كان غياب التمثيل الكافي في بعض القطاعات، وصعوبة بناء ثقة العملاء في المشاريع المحلية مقارنة بالعلامات العالمية. تقول لولوة المهندي: «أحيانًا يُفضل العميل اسمًا أجنبيًا حتى وإن كانت الجودة أقل. علينا نحن كرائدات قطريات أن نعيد بناء الثقة في المنتج المحلي، وهذا ما أفعله يوميًا من خلال الالتزام بالجودة العالية والهوية القطرية».
من جهة أخرى، ترى معظم السيدات أن بيئة ريادة الأعمال في قطر قد شهدت تطورًا كبيرًا خلال العقد الأخير، خاصة من ناحية توفر برامج الدعم والتمويل والتدريب، مثل «بنك قطر للتنمية»، و»واحة قطر للعلوم والتكنولوجيا»، وغيرها من المبادرات الحكومية والخاصة التي فتحت أبوابًا واسعة للابتكار والمبادرة.
في قراءة تحليلية للاستطلاع، ترى الدكتورة ريم السليطي، الباحثة في قضايا التنمية والسياسات الاجتماعية، أن هذا الحراك النسائي في ريادة الأعمال ليس مجرد ظاهرة اقتصادية، بل انعكاس لتغير اجتماعي أعمق. تقول: «المرأة القطرية اليوم لم تعد فقط مربية أو موظفة، بل أصبحت قائدة للتغيير، وبناة لمشاريع قادرة على منافسة كبريات الشركات في المنطقة.» وتشير إلى أن هذا الحراك يساهم بشكل مباشر في تحقيق أهداف رؤية قطر الوطنية 2030، خاصة في محاور التنوع الاقتصادي وتمكين الشباب.
ختامًا، يتضح من خلال هذا الاستطلاع أن المرأة القطرية تجاوزت مرحلة إثبات الذات، وأصبحت شريكًا فعليًا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. قصص الرائدات ليست فقط ملهمة، بل أدوات تعليمية لكل من يسعى لصناعة التغيير، وبراهين حية على أن التحديات مهما بلغت صعوبتها، لا تصمد أمام الإرادة، والتخطيط، والعمل الجاد.